سورة يونس - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس: 10/ 40- 44].
هذا إخبار عن موقف مشركي مكة من القرآن والنّبي، فهم فريقان: من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل ويتبع النّبي، وينتفع بما أرسل به. ومنهم من يصرّ على كفره ولا يؤمن أبدا، ويموت على ذلك، وربّك أعلم بمن يفسد في الأرض بالشرك والظلم، فلا أمل في إصلاحه، وسيعذّبه الله في الدنيا والآخرة. وهذا تهديد ووعيد.
وإن كذبك هؤلاء المشركون أيها النّبي، فتبرأ منهم ومن عملهم، وقل لهم: لي عملي: وهو الإيمان بالله وتبليغ رسالته وطاعته، وأنا مسئول عنه، وسيجازيني الله عليه. ولكم عملكم: وهو الظلم والشرك والفساد، وسيجازيكم الله عليه. أنتم بريئون مما أعمل، وأنا بريء من عملكم، فلا تؤاخذون بعملي، ولا أؤاخذ بعملكم، وأنتم مسئولون عنه. وهذه آية مناجزة لهم ومتاركة، وفي ضمنها وعيد وتهديد. والآية في معنى قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ...} [الكافرون: 109/ 1- 6].
وأما موقف المشركين المكّيين منك أيها النّبي فهم أصناف، منهم من يستمعون إليك بآذانهم إذا قرأت القرآن وعلّمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وإنما يسمعون دون تدبّر ولا فهم، وحينما لا يؤمنون ولا ينتفعون بسماع القرآن، كأنهم لا يسمعون، وأنت أيها الرسول لا تستطيع الإسماع النافع لقوم صموا آذانهم عن سماعك، ولا يعقلون ما يسمعون ولا يفهمون معناه، فينتفعون به، فلا تكترث بهؤلاء، لفساد العقل والدماغ، ولا سبيل لأن يعقلوا حجة ولا دليلا أبدا.
ومنهم من ينظر إليك أيها النّبي عند قراءة القرآن نظرة إعجاب، ولكنهم لا يبصرون نور الإيمان والقرآن، وهداية الدين القويم والخلق السليم، ولا تقدر على هدايتهم، لأنهم وإن كانوا مبصرين بأعينهم في الظاهر، فهم غير مبصرين بقلوبهم في الحقيقة، كما قال تعالى: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحجّ: 22/ 46].
وهذان الفريقان لا تستطيع يا محمد هدايتهم، لفقدهم الاستعداد للفهم والانتفاع بنور الهداية لأن فائدة السمع والبصر هي الانتفاع، فإذا لم ينتفعوا فكأنهم عطلوا حواسهم، وفقدوا حاستي السمع والبصر، كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 50/ 37].
ثم ختمت هذه الآيات بخاتمة تعدّ مبدءا عظيما في الحساب والمسؤولية، وهي إقرار العدل ومنع الظلم والترفع عنه، فإن الله تعالى لا يجور أبدا، بسلب الحواس والعقول التي تدرك بها الأشياء، ويهتدى بها إلى الحق والصواب، ولكن الناس هم الظالمون لأنفسهم وحدها دون غيرها، لأنهم يعرّضونها لعقاب الكفر والتكذيب والمعاصي، بتعطيل نعمة العقل، والتّنكر لهداية الدين. وهذا وعيد واضح للمكذبين، ويكون عذابهم يوم القيامة حقّا وعدلا، لا ظلم فيه.
تهديد المشركين على تكذيبهم:
توالت تهديدات القرآن الكريم للمشركين على تكذيبهم برسالة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبكل ما جاء فيها من وعد ووعيد، وتنوعت أساليب التهديد، فمرة ينذرهم القرآن بزوال الدنيا السريع، ومرة يبين لهم أن تعذيبهم سيكون في الدنيا وفي الآخرة، وأحيانا يحذّرهم بالقضاء الحاسم بينهم وبين رسولهم، ويوضح أن إنزال العذاب مقصور على إرادة الله ومشيئته، وهذا ما أوضحته الآيات التالية:


{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)} [يونس: 10/ 45- 47].
هذه ألوان من تهديدات مشركي مكة وأمثالهم بالعذاب، والتهديد الأول يشتمل على وعيد بالجزاء في الآخرة والحشر وخزيهم فيه وتلاوم بعضهم لبعض، وأن قيام الساعة والحشر قريب، وزوال الدنيا سريع.
والمعنى: اذكر لهم أيها الرسول وأنذرهم يوم يجمعهم الله بالبعث بعد الموت في موقف الحساب والجزاء، فيقدّرون أنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة، وكأنهم ما لبثوا في الحياة الدنيوية إلا مقدار ساعة بالنسبة لعالم الآخرة. إنهم أضاعوا الدنيا والعمر في اللهو والفساد، ولم يعملوا لما ينفعهم في الآخرة. والساعة التي قضوها في الدنيا هي مقدار تعارفهم فيما بينهم، ثم تنقطع المعرفة بينهم والأسباب.
لذا أعلن الله تعالى خسارة المكذّبين بقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ} أي إن هؤلاء الكفرة المكذّبين بالبعث في الآخرة، قد خسروا ثواب الجنة خسارة كبري، حين بدّلوا الإيمان بالكفر، ولم يكونوا مهتدين لأوجه الربح والنفع بعمل الصالحات، فما أخسرهم. وهذا تعجّب شديد من أفعالهم.
والتهديد الثاني أن بعض عذاب المشركين المكذّبين برسالة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم سيكون في الدنيا وبعضه سيكون في الآخرة، فقل لهم أيها الرسول لمن يستعجل العذاب استهزاء واستبعادا: إما أن ننتقم منهم حال حياتك لتقرّ عينك كما حدث في معركة بدر وحنين وغيرهما، وإما أن نعذبهم بعد رجوعهم إلينا في الآخرة وبعد وفاتك، فنطلعك على أفعالهم، ونجازيهم عن علم وشهادة حق، فإن الله شاهد على ما يفعلون، كما جاء في آية أخرى: {وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40)} [الرّعد: 13/ 40]. ويدلّ هذا على أن الله تعالى يري رسوله ألوانا من ذلّ الكافرين وخزيهم في الدنيا، وسيزيد عليه بعد وفاة النّبي، وفي عالم الآخرة.
فتكون الآية وعيدا بالرجوع إلى الله تعالى، فإن أريناك أيها النّبي عقوبتهم، أو لم نركها، فهم على كل حال راجعون إلى الحساب والعذاب في الآخرة، والله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم.
والتهديد الثالث إخبار من الله تعالى بالقضاء الفصل في مصير المشركين يوم القيامة، فإن لكل أمة رسولا، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم، صيّر قوم للجنّة وقوم للنّار، فذلك القضاء بينهم بالقسط أي بالعدل، وهم لا يظلمون في قضائه شيئا، ولا عذاب بغير ذنب مرتكب، ولا مؤاخذة بغير حجة، من آمن بالرسول فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذّب، كما جاء في آية أخرى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 17/ 15].
هذه التهديدات الثلاثة كفيلة بردع أهل الغواية والشّر والضّلالة والكفر، فإن العاقل يدرك المخاطر، ويتجنّب المآخذ والسّيئات، ويرسم لنفسه طريق النّجاة. ويتفاقم الخطر حين يعلم الإنسان أن العذاب لمن كفر بالله شديد مضاعف في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فذلّ وهزيمة وخزي وقلق، وأما في الآخرة فنيران ملتهبة تحرق الأجساد، ويتجدد العذاب على الدوام من غير انقطاع، لأن الكافرين مخلدون في النار.
استعجال المشركين العذاب الدنيوي:
ليس هناك أقبح جرما ولا أشنع موقفا من التّحدي والعناد والتّكبر، وهذا الأسلوب من المعارضة كان منهج المشركين في مقاومة دعوة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فاستعجلوا نزول العذاب الذي هددهم به، استهزاء وإصرارا على الشرك والوثنية، فأمهلهم القرآن وناقش مطالبهم وأنذرهم بقرب العذاب والعقاب. قال الله تعالى واصفا موقف مشركي مكّة:


{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)} [يونس: 10/ 48- 51].
لقد طالب مشركو قريش تحديد وقت العذاب الذي هددهم به النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا:
متى يقع هذا الوعيد، إن كنتم صادقين في تهديدكم وقولكم؟ أي إن هذا الذي توعدنا به حدّد لنا فيه وقته، لنعلم الصدق في ذلك من الكذب.
فأجابهم الله تعالى ردّا للحجة: قل لهم يا محمد، إني بشر، لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا من دون الله، ولا أنا إلا في قبضة سلطانه وفي مظلة الحاجة إلى لطفه وتوجيهه، إلا ما شاء الله أن يقدرني ويخبرني، فإذا كنت هكذا، فأحرى ألا أعرف غيبه، ولا أتعاطى شيئا من أمره، ولكن لكل أمة أجل، انفرد الله تبارك وتعالى بعلم حدّه ووقّته، فإذا جاء ذلك الأجل في موت أو هلاك أمة، لم يتأخّروا ساعة، ولا أمكنهم التقديم عن حدّ الله عزّ وجلّ. إن تعيين وقت الوعيد وإنزال العذاب مرجعه إلى الله تعالى وحده. وأما الرسول فمهمته مقصورة على تبليغ ما جاء من عند الله سبحانه. وهذا يبين الحدّ الفاصل بين سلطان الله ونطاق معرفة البشر وخبرتهم.
ثم أجابهم الله تعالى بجواب آخر: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} أي قل لهم أيها الرّسول: أخبروني عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه، إن أتاكم عذابه ليلا وقت مبيتكم، أو نهارا وقت شغلكم، فماذا تستعجلون منه، وأنتم لا قبل لكم به؟ أي عذاب وقع فهو شديد، وكل ما تطلبون تعجيله هو جهل وحماقة.
أتنظرون مجيء هذا العذاب لتؤمنوا بالله ربّكم؟ فإذا وقع بالفعل آمنتم به، في وقت لا ينفع الإيمان، ويقال لكم حينئذ توبيخا: آلآن آمنتم بالله والرّسول اضطرارا وقسرا، مع أنكم كنتم قبل ذلك تستعجلون العذاب على سبيل السخرية والاستهزاء والتكذيب والاستكبار؟! والمراد أنه إذا وقع العذاب وآمنتم بالله، فذلك غير نافعكم.
ثم يجيء الوعيد الأعظم بالخلود لأهل الظلم الأخصّ وهو ظلم الكفر، لا ظلم المعصية. فيقال لأولئك الكفار المعاندين الظالمين أنفسهم، المكذبين الرسول ووعيده: تذوقوا وتجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا، لا تجزون إلا ما كنتم تكسبون وتعملون باختياركم من الكفر والمعاصي. وقوله سبحانه: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} توبيخ وبيان لقانون الجزاء: وهو أن الجزاء في الآخرة، إنما يكون على تكسب العبد، وإقدامه على الفعل بحرية واختيار وجرأة على مخالفة أوامر الله. وذكر هذه العلة: {بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} بعد ذكر العذاب: دليل على أن جانب الرّحمة الإلهية راجح غالبا، وجانب العذاب مرجوح مغلوب. لكن الرحمة الإلهية منوطة بإرادة الله، أما قانون العدل فهو أن الجزاء من جنس العمل، ويوجب العمل، لأن الجزاء واجب بحكم الوعد المحض، ولله سبحانه المشيئة المطلقة، يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد.
تحقّق المشركين من وقوع العذاب الأخروي:
استبطأ المشركون لجهلهم وحماقتهم وقوع العذاب في الدنيا، فأخرسهم القرآن، وأبان لهم أن توقيت العذاب بأمر الله وحكمته، ثم تشكّكوا في وقوع عذاب الآخرة، فبدؤوا يتساءلون عن مدى صحته ومصداقية الوعيد به لأنهم قوم ينكرون البعث والآخرة جملة، ويعتقدون بأن الموت في الدنيا نهاية دائمة، لا عودة بعدها إلى الحياة مرة أخرى. وهذا ما صوره القرآن الكريم تصويرا دقيقا وبيانا صريحا بقوله تعالى:

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9